قبر حياتي
تركنا منزلنا ورحلنا لبيت جديد لمنزل حسبه والدي جيداً لسعره الزهيد, كانت غرفه كثيرة وكبيرة ومرتبة, ومع أنه كان آخر دور في البناء إلا أن كان الصعود إليه مريحاً جداً, وبعد مرور الوقت اكتشفت أن في غرفة الجلوس باب مخفي, والذي كان لشرفة مهجورة, ولم أدرك سبب إغلاقه الغريب, فغامرني فضول قوي لفتحه, ولم أكن أدري أني فتحت باب الندامة والخوف والموت, باب لن أستطيع إغلاقه بعد ذلك, وخرجت للشرفة وكانت واسعة جدا أصابتني الرجفة وجمدت مكاني من خوف ما وجدت لقد كانت أكبر مما توقعت وعندما مشيت فيها بدأ المطر يتناثر فوق وجهي الخائف المتلون بشتى الألوان ثم وجدت أمامي مساحة كبيرة وكأنها بستان من نعيم وأرض مزروعة بأشجار صغيرة جداً ومغمورة بالماء لكنها كانت ميتة ويابسة من تساقط المطر بغزارة عليها وعلى طرف الأرض الآخر وجدت قبور لعائلة واحدة, وبينما كنت واقفة أتفرج ويا لها من فرجة وفي نفس الوقت كنت سعيدة بتساقط المطر علي, أضاء ضوء غريب بسرعة, فخفت كثيراً فإذ به كان والدي الذي جاء وأنار الضوء, واقترب نحوي ولم يعاتبني لما فعلته, بل وقف يشاهد ذلك المنظر الحزين وقال متأسفاً على الأشجار: حرام الأشجار تموت هكذا, وكأنه تدخل في أمر كان يجب ألا يتدخل فيه وألا يتكلم به, ونظر للحائط حيث وجد مولدة ماء مطفئة, ويكسوها الغبار السميك, فصعد الحائط ووصل محول الكهرباء, فاشتغلت المولدة وضخت الماء من الكوخ الذي كان قرب القبور, إلى منزلنا عبر بربيش ممدود من الكوخ إلى المنزل, ثم جاء أشخاص كثيرون لا أنا ولا والدي قد عرفنا من أين, وأخذنا الأمر ولم نتساءل أبدا من أين جاؤوا ولم يسألهم والدي عن هويتهم, بل تابع عمله وطلب المساعدة منهم في إصلاح الأرض وإنقاذ الشجيرات, وبعدها جاء شاب نحوي وطلب مني الابتعاد ووضع قدمه على فتحة صغيرة في الأرض قد خرج منها الماء بغزارة لدرجة أنها كادت تغرق المنزل وفجأة اختفت المياه وظهرت الشجيرات بأحلى حلة وإشراق, وعاد كل شيء لحاله وعادت حياتنا لطبيعتها, وصباحاً كان كل شيء وكأنه لم يكن, ليس في ذاكرتي فقط بل في ذاكرة والدي أيضاً, والذي لم أراه هذا الصباح قبل خروجي كما عودني كل يوم, وبعدما عدت من مشواري لم يكن في البيت سوى أمي, التي قالت لي أن والدي اتصل وقد طلب مني أن أسقي الشجيرات, فقلت لا ليس الآن, وكانت أمي في حالة غريبة وليس كعادتها حتى أنها لم تنظر إلي وهي تحدثني, تركتها وخرجت أسقي الأشجار وأنا أشعر أن أمي تتبعني وهي ما تزال في غرفتها, وبعد قليل لم أعد أراها أبداً, وكأنها اختفت كيف لا أعرف, ومع ذلك تابعت عملي في الشرفة, وأدرت المحول لكنه لم يعمل نظرت للبربيش الذي كان يخرج من داخل ذلك الكوخ والطرف الآخر معلق على مسمار على الحائط, حاولت أخذه فوقع من يدي ثم حاولت أخذه من جديد فانسحب بقوة كبيرة لداخل الكوخ وكأن أحد ما قام بسحبه, وبعد قليل وبشكل رهيب لدرجة أني كدت أقع أرضاً من خوفي, جفت الأرض وماتت الشجيرات, وكل ما فكرت به هو غضب والدي مني, وفجأة سمعت صوت أحدٍ ما يقول,, إياكِ أن تخرجي عن طاعة الله, مما زاد خوفي خوف ورعب لأول مرة أشعر به, واستغللت فرصة نجاتي من هذا الرعب القاتل وخرجت أبحث عن أمي التي ما زالت في غرفتها, ومنذ قليل لم تكن فيها, أين ذهبت وكيف ومتى عادت يا إلهي أكاد أجن, وهربت لألحق بها وأنا لا أعرف أين هي, وكأني كنت واقفة أمام الموت مستسلمة بكل شيء, دخلت غرفة أمي وكانت هنا فعلاً تتحدث مع أشخاص لا أعرفهم بل لا أراهم, ولا أدري من أين جاؤوا, ولماذا يتصرفون بغرابة وجنون, فركضت نحو غرفتي ودخلت بسرعة وأغلقت الباب وجلست على الأرض أبكي من خوفي, هربت منهم ومن نفسي, وكنت أسمع صوت أمي وصوتهم وأبكي, وبعد قليل دخل غرفتي ذلك الشاب نفسه الذي كان في الشرفة تلك الليلة التي لا أتذكر منها شيء, اقترب مني بسرعة غريبة ولمسني حتى انتقلت لعالم آخر ومكان آخر وظروف أخرى وحياة أخرى, كان كل ما فيها أسود اللون ولم أعد أذكر أمي ولم أعد أراها أبداً, ولم يحدثني ولم يترك لي مجال للمحادثة, وكان كل شيء قد توقف الزمن والساعة والبشر, لمجرد لمسة صغيرة, انتقلت لشيء آخر لم أرى فيه أحد حولي أو حتى أسمع شيء ولم أعرف ما الذي من الممكن أن يكون قد حدث لي, هل أخذني معه لعالم الموت داخل القبر, أو نقلني لعالم لم أكن أطيق العيش فيه ولم أكن أريده في حياتي مع أنه كان خير لي, أو هل أنقذني من شيء ما ربما كان سيؤذنني يوماً ما, أو هل هو من أهل القبور الذين أزعجتهم بتدخلي في أرضهم, أو هو عقاب لي كي أرضى بحياتي ولا أعترض على شيء فيها, إن العلم عند الله فما عدت أعلم شيء, ربما كان هذا الشيء هو قبر ضيق أو واسع مريح أو متعب أو سبب هلاكي أو نجاتي, المهم أنه كان قبر حياتي الذي أعاد لي حياتي, بعد السواد الذي غطاها طوال سنين, إلى نور حقيقي لم أفهمه حتى الآن, لكني رأيت فيه أن البربيش كان جسد أفعى في كأس معصيتي والتي خرجتُ بها من طاعة الله, وقد خرجت من تلك الفتحة حبوبي كالحشرات, ولولا أنه أغلقها لكانت خرجت منها ودخلت البيت الذي كان بيت جسدي, وانتشرت وتكاثرت فيه, تلك كانت الحبوب التي كنت سأنتحر بها, والتي كانت تفيض بالمعصية الآثمة والفاحشة, وبعدما استيقظت في قبري وهو يضيق بجسدي أكثر وأكثر حتى عصرني كما أعصر الليمون بل أشد من ذلك إلى أن تلاشيت واختفيت, وأحاطت بي النيران غاضبة جائعة عطشى تريد التهام جسدي العاصي, فإذا في نار الدنيا احترقت كالورقة, فماذا سيحدث لي في نار جهنم, فرميت الحبوب فزعة وبكيت بشدة وأخذت كلمة الله المعلقة على الحائط التي لربما وضعتها منظر فقط وعانقتها, ثم جلست على الأرض أبكي بألم وندم وقهر, وأرجو الله أن يسامحني ويعديني لطاعته ورحمته وحسن عبادته.. [center]